“الترجمة أداةً للنفوذ في أروقة السياسة والحروب”
المؤلف والمترجم عمار قواسمية لـ" المستقبل المغاربي"

المؤلف والمترجم عمار قواسمية لـ” المستقبل المغاربي”
“الترجمة أداةً للنفوذ في أروقة السياسة والحروب”
“كيف تكتب الترجمة تاريخ النزاعات؟ من القضية الفلسطينية إلى الصحراء الغربية”وفي قضية “غَـزَّة” نُؤَكِّدُ أنَّ الترجمة قد تكون أداةً لتعزيز التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية”
“في النزاعات الدولية مثل قضية الصحراء الغربية، تتحول الترجمة إلى أداة سياسية بامتياز”.
النزاعات الراهنة، كالتي تشهدها فلسطين أو لُبنان أو اليَمَن- فَالترجمة أداةٌ لنقل معاناة الشعوب إلى العالَم خارج هذه البُلدان
تحدث المؤلف والمترجم، عمار قواسمية، عن دور الترجمة ودَور المترجِم العربي في إيصال صوت قضية ما ، وذكر في حوار خص به ” المستقبل المغاربي” محاسن الترجمة ومساوئها بوصفها سِلاحا ذا حَدَّين،
مُشيرا لما نعيشه اليوم وهو عصر الحروب والصراعات بامتياز حيث تَحتَلُّ الترجمةُ موقعًا رَئيسًا في تعزير الفهم المتبادل بين الثقافات والشعوب المتنازِعة، وقال “ما يجري من ظلم واضطهاد للشعب الفلسطيني يتطلب خِطابًا عالَميًا مُوَحَّدًا -وَمُوَحِّدًا- والترجمة هي سَبِيلُنا الوحيد لجعل هذا الخطاب يتردد في جميع أنحاء العالم.
حاورته : عائشة قحام
1++ سؤال: كَيف يمكن للترجمة أن تَكُونَ فَاعِلًا في عصر الحروب الذي يَعيشُهُ العالَم عُمُومًا، والعَرَب خُصُوصًا؟
++ جواب: يُحِيلُنِي سؤالكِ إلى مداخلة قدمتها قبل سنة في ملتقى دولي نظمه اتحاد المترجمين الدوليين في لبنان، وكان عنوانها «الترجمة في أوقات الصراعات والحروب: عَيِّناتٌ من التضليل في وسائل الإعلام الغربية، ودَور المترجِم العربي في إيصال صوت القضية»، حيث ناقشتُ فيها محاسن الترجمة ومساوئها بوصفها سِلاحا ذا حَدَّين، بمعنى أنها قد تفيد الأخيار في ما يُستَحسَن، وقد تفيد الأشرار في ما يُستَهجَن.
وفي ما نعيشه اليوم -وهو عصر الحروب والصراعات بامتياز- تَحتَلُّ الترجمةُ موقعًا رَئيسًا في تعزير الفهم المتبادل بين الثقافات والشعوب المتنازِعة، حَيثُ إنها تُسهم في رَأبِ الصَّدع الثقافي والتواصلي الذي قد يؤدي إلى خلق سوء الفهم، بل وتصعيده، ومن ثَمَّة تَسعِير الصراعات وتأجيجها أكثر فأكثر. فتتدخل حينها الترجمة لتُمكِّن الشعوب والأفراد من الوصول نقاط ائتلاف وسط غَلَبَة الاختلاف؛ مِما قد يُعزز فرص التفاهم وإيجاد الحلول المشتركة. وهذا ما وَصَفَهُ “عز الدين الخطابي” بِالمُستَوَى الإيتيقي للترجمة، يَقصد الأخلاقي، الذي يسمح باستقبال الغريب (نَصا وثقافة) بحفاوة داخل مقام اللغة المترجَمة في إطار ما دعاه “بول ريكور” و “جاك دريدا” بالضيافة، وذلك باسم الحوار والتفاهم بين اللغات والثقافات.
وعلى سبيل المثال، نجد أنَّ الحركات الاستقلالية في العالم العربي في منتصف القرن العشرين قد استندت إلى الترجمة بوصفها أداةً لنقل أفكار التحرر والمقاومة من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية؛ مِما أسهم في بناء الوعي الوطني والسياسي في مواجهة الاستعمار بأنواعه.
أمَّا في النزاعات الراهنة -كالتي تشهدها فلسطين أو لُبنان أو اليَمَن- فَالترجمة أداةٌ لنقل معاناة الشعوب إلى العالَم خارج هذه البُلدان، حيث تضطلع الترجمة بدور الإعلامي الذي ينقل صوت المظلومين إلى العالَمين؛ من أجل أن تُتَّخَذَ مواقف تضامنية إنسانية أو إجراءات ردعية حقيقية تنتصر للحَق وتنصر المظلوم. كما تَصير الترجمة في الأزمات الحادة صَوتَ الحق الذي يُسمِعُ الخطابات المؤيدة للسلام ورفض الحروب.
2+++ سؤال : الترجمة بوصفها فعلًا وحياةً، كيف يمكننا ربطها بما يجري من الصراع في غزة؟
+++ جواب : بِعَدِّ الترجمة أسلُوبَ حياة وفعل اجتماعي فإنها -دُون أدنَى شَك- شريانٌ يربط أي شَعبٍ من شُعوب العالم بغَيرِه، وفي قضية “غَـزَّة” نُؤَكِّدُ أنَّ الترجمة قد تكون أداةً لتعزيز التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية.
إن الأغنية السويدية “تحيا فلسطين” مَثَلًا قَد صارت رمزًا للتضامن مع الفلسطينيين. وتداوُلها يخلق تضامنا حقيقيا مع المتضررين في فلسطين لدى الشعوب الناطقة بلغة هذه الأغنية. فإن راجت وشاعت قد تزيد حظوظ ترجمتها إلى لغات العالَم الأخرى، وَعندما تُترجَم فإنها تفتح الباب أمام التلقي الصحيح لما يحدث، وخلق الفضول من أجل فهم صحيح ومُؤَسَّس، وبالتالي تعزيز الدعم الدولي للقضية الفلسطينية أكثر فأكثر؛ لأننا لسنا بصدد نقل جامد للكلمات، بل إننا نُحيِي المعاني والأبعاد الإنسانية المرتبطة بالصراع والظلم والاضطهاد والانتهاكات السافرة والسافلة.
إنَّ ما يجري من ظلم واضطهاد للشعب الفلسطيني يتطلب خِطابًا عالَميًا مُوَحَّدًا -وَمُوَحِّدًا- والترجمة هي سَبِيلُنا الوحيد لجعل هذا الخطاب يتردد في جميع أنحاء العالم؛ إذْ إن الإصرار على التطرق إلى معاناة الفلسطينيين وترجمة معاناتهم ونقلها إلى لُغات العالَم، يُكافِئُها إصرار على التغطية الإعلامية الدولية؛ مِما يفرض على المجتمع الدولي اتِّخاذَ موقف أقوى وأوضح ضد الاحتلال. وكما قال نيلسون مانديلا: “حريّة فلسطين ليست فقط حُرِّيَّة شعب، بل هي معركة ضد الظلم في العالم كله”.
فإن سَمَحتُم لي بالخروج قليلا عن القضية الفلسطينية، والولوج في قضية الصحراء الغربية التي تَهُمُّنا أيضا في هذا السياق، فإني أقول أن هذه القضية من أبرز النزاعات الإقليمية التي تشغل العالم العربي وإفريقيا منذ منتصف القرن العشرين. وإنَّ للترجمة دَورًا في هذه القضية ليس بوصفها أداةً لنقل المعلومات فحسب، بل لتأثيرها المباشر على تشكيل الرأي العام الدولي.
وأغتنم هذه الفرصة لأُشِيدَ بالجهود الجبارة التي يقدمها الدكتور محمد دومير، المهتم بالتاريخ الجزائري وتاريخ المنطقة المغاربية، حيث أنه يعكف منذ سنوات على البحث التاريخي الرصين المُؤَسَّس على الأبحاث الجادّة وأُمَّات الكُتُب لتقديم مادة عِلمية معرفية رصينة تُثَقِّفُ المهتم والمتابع والقارئ وحتى المتخصص. وأذكُرُ أنه في هذه الأيام يخُوضُ جَولَةً أخرى في سبيل إحقاق الحَق، من خلال زيارته إلى مقر الأمم المتحدة بَحرَ هذا الأسبوع، بعد التحقق من المعلومات الواردة في عدة وثائق تثبت استقلالية الصحراء الغربية تاريخيا، بما في ذلك رسائل سلاطين مُراكش ومعاهداتهم، حَيثُ أرسَلَها إلى اللجنة الرابعة للأمم المتحدة لإنهاء الاستعمار، وطلب أن يعرضها بقاعة الاجتماعات هذا الأسبوع أمام كل العالم. ولا بُدَّ أن للترجمة يَدًا طُولَى في هذا الجُهدِ المُبَارَك.
في النزاعات الدولية مثل قضية الصحراء الغربية، تتحول الترجمة إلى أداة سياسية بامتياز؛ فكل طرف يسعى إلى استِغلال الترجمة في إيصال روايته الخاصة إلى المجتمع الدولي. فالمملكة المغربية -التي ترى أن الصحراء جزء من أراضيها- قد تعتمد على الترجمة لنقل خطابها الرسمي إلى المنظمات الدولية، وكذلك تسعى جبهة البوليساريو -التي تطالب بالاستقلال- إلى إيصال روايتها إلى العالم بترجمة مواقفها وخطاباتها إلى اللغات الأكثر تأثيرًا كالإنكليزية والصينية والإسبانية والفرنسية وغيرها..
كما تُؤَدِّي الترجمة دورًا رَئيسًا في التحاور الدبلوماسي بين الأطراف المتنازعة والمجتمع الدولي. فإن منظمة الأمم المتحدة -التي تتولى مسؤولية مراقبة النزاع- تعتمد على التقارير المترجَمة من كلا الجانبين لتقييم الموقف وإعداد الحلول الممكنة، وَدُونَ ترجمة دقيقة وموضوعية سيكون من الصعب بِمَكان على المجتمع الدولي أن يفهم تعقيدات النزاع وتحديد الخطوات المناسبة لفَكِّهِ. فَالترجمة -والحالُ هذه- ليست مجرد نقل للخطابات أو التصريحات، بل إنها تتعدى هذه الدور التقليدي إلى أن تصير أداةً لتشكيل التفاهمات السياسية والدبلوماسية، وَدُونَ هذه التَّرجَمات المُحكَمة تفقد المفاوضات الدولية فاعليتها، كما قد تتأثر القرارات الأممية.
هذا، وقد تُؤَدِّي وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في توجيه الرأي العام؛ إذْ يَعتمد العديد من الصحف والقنوات الإخبارية العالَمية على الترجمة في نشر الأخبار المتعلقة بالنزاع على الصحراء الغربية. ومن خلال ترجمة هذه الأخبار، قَد يُوَجَّهُ الرأي العام العالَمي تُجاه أحد أطراف النزاع، أي أن الترجمة قد تصير بُوقًا يخدم طرفا على حساب طرف، أو عامِلًا عَمِيلًا خالِقًا للتَّحَيُّز غير الموضوعي؛ فعندما تترجم وسائل الإعلام مثلًا تقارير من المنظمات الحقوقية أو السياسية، فإنها قد تساهم بدورها في خَلق صورة معينة عن النزاع، وهذا ما يجعل الترجمة أداةً لتشكيل سردية النزاع، سواء كانت هذه السردية تدعم الرواية المغربية أو رواية البوليساريو. وفي هذا الصَّدَد تحضرني مقولة مفادُها: “الإعلام المترجَم هو الذي يحدد مصير الأفكار والسياسات”.
3+++ سؤال: لماذا نجد بعض الترجمات تتسم بالركاكة اللغوية، وأخرى تبذل جهدًا كبيرًا في إنتاج نصوص ذات جودة؟
+ جواب: يَعُودُ تفاوت مستوى الترجمات إلى عاملين رئيسَين: المهارات اللغوية ثُمَّ المعرفة الموضوعية لدى المترجم. فالمترجم الجيد هو الذي يمتلك إلمامًا عميقًا باللغتين، لغة الأصل ولغة الهدف. وعندما يُسيء المترجِم فهم النص الأصل أو يفتقر إلى المعرفة الكافية بالموضوع، سيُنتِجُ ترجمة ضعيفة، ذات صياغة ركيكة، والأسوأ أن تتضمن أخطاءً فادحة متعلقة بالمعنى. وهذا قد يسيء إلى سُمعَة المترجِم وينزله إلى الدَّرَك الأسفل للمبدِعِين؛ إذ يَقُولُ الجاحظ: عُيُوب المنطق التصحيفُ وسوءُ التأويل والخطأُ في الترجمة..! فَمَن أخطَأ في التَّرجَمَة كأن في منطقه عَيبًا، حسب تَصَوُّر الجاحظ أَبُو عُثْمَان عَمْرُو بْن بَحْر.
فَالترجمة تتطلب من المترجِم أن يكون على دراية بالثقافة، والفكر، واللغة، وإذا فقد أيًّا من هذه المُرَكِّبَات فإن نِتاجَهُ سيَكون -لا مَحالَةَ- رَدِيئًا ورَكِيكًا. وهذا لا يَعني بالضرورة أن نُغَلِّبَ تفضيلاتنا على الأصل فنَقتُلَه لتَحيا تَرجَمَاتُنا. إنما يعني أن نَكُونَ وَسَطًا بين الحالَين، وفي هذا أقولُ: تَعتَرِضُ المُتَرجِمَ -في رِحلَتِهِ لإنتاج تَرجَمَةٍ- صُعوبَاتٌ جَمَّة، لَعَلَّ أهَمَّهَا تِلكَ المُتَعَلِّقَةُ بِالمُحافَظَةِ علَى شَكلِ الأَصلِ ومَضمُونِهِ في آن. فَيَكُون في ذَلِكَ كَمَن تَتَجَاذَبهُ قُوَّتَانِ، مُتَسَاوِيَتَانِ في الشِّدَّة ومُتَعَاكِسَتَانِ في الاتِّجَاهِ. وفي وَسط هذا التَّجَاذُبِ، تُوضَع حِكمَةُ المُتَرجِمِ علَى المِحَكِّ: فإن مالَ للشَّكلِ كانَ كَجَمِيلِ المَظهَرِ قَبيحِ الجَوهَرِ، وإن مالَ للمَضمُون كانَ كَحَكِيمٍ وَرِع ذِي مَظهَرٍ بَشِع. فالتَمِس بَينَ الحَالَينِ تَعيِينَا، تَرِبَت يَدَاكَ وَكُنتَ المُتَرجِمَ الأَمِينَ المَكِينَ.
أما الترجمة الجيدة -في رأيي على الأقل- فهي التي تحقق ما سَبَقَ ذِكرُه، عِلاوَةً على جُهدٍ من المُتَرجِمِ لا يُنكِرُه إلا قارئ جاحد. وأعني بهذا الجُهد ما يتجاوز أو يزيد عن مَتن الترجمة، وهو النَّص الموازي المحيط، من حواشٍ وتعليقات وإضافات وكشافات وغيرها. وهذا ما يعطي للنصوص حياة أطوَل وأجوَد، وكما قال “عبد السلام بنعبد العالي”: «مَهَمَّةُ المترجِم هي أن يَسمح للنَّصّ بأن يُنقل من ثقافة لأخرى، وأن يُمكنه من أن يَبقى ويَدوم، بَيدَ أن النَّقْلَ لا معنى له إن لم يَكن انتِقالًا، ولا البَقاء إن لم يَكن تَحَولًا وتجَدُّدًا، ولا التَّجدد إن لم يَكُن نُمُوًّا وتَكاثُرًا». ولا يَتَأتَّى هذا إلا بإضافات المُتَرجِمِ التي تُثرِي الأصل. في إحدَى تَرجَمَاتِي مَثَلًا، أضَفتُ “مقدمة المترجِم” في ما يقارب الخمسين صفحة، وحواشٍ تناهز الـ600 حاشية، وكشافات كثيرة كلها من اجتهاداتي.
4- ++ سؤال: سياسات الترجمة، من يترجم ولمن؟
+++ جواب : إن سياسات الترجمة واضحة وجَلِيَّة في المشهد الثقافي العربي؛ فمشاريع الترجمة الكبيرة غالبًا ما تُدِيرُها جهات حكومية أو مؤسسات ثقافية، تهدف إلى تحقيق أهداف مُحَدَّدَة، سواء كانت ثقافية أو سياسية. ومن هذا المُنطَلَق نَطرَحُ السؤال: ماذا يُترجَم ولماذا؟ (وَرُبَّمَا لِمَن؟).
إن ترجمة الأعمال -فكريةً كانت أم إبداعية- ليست عملية حيادية في أحايِينَ كثيرة؛ ففي العالم العربي مَثَلًا، يَخضَع كثيرٌ من المشاريع الترجمية لأجندات بِعَينِها، تسعى إلى توجيه الوعي الجَمعي نحو قضيةٍ ما أو إعداده لأيديولوجية معينة، والأيديولوجية هي الفِكرانية باصطلاح “طه عبد الرحمٰن”، بمعنى أن الترجمة قد تكون وسيلة لفرض سلطة ثقافية. وعلى سبيل المثال، قد نَجِدُ أن الترجمة تزدهر إذا كانت الكتب الأصل تتوافق مع التوجهات السياسية السائدة، بينما تُهمَل الترجمة إذا كانت النصوص تتعارض مع هذه التوجهات، وهذا يُظهِر أنَّ الترجمة قد تكون أداة للتلاعب بالوعي الثقافي.
في رَأيِي، يَجِبُ أن تستقل الترجمة، وألا يؤثر فيها أي مؤثر مهما كان، وأن يكون الفاصل في الانتقاء هو القراءة الجادة والواعية. كما أؤكد مَرَّةً أخرى -كما أفعل في كل فرصة تُتاح لي- على الإسراع في إنشاء المركز الوطني للترجمة، الذي تعهدت بإنشائه وزارة الثقافة والفنون في 27 فيفري 2023، ثم أكد المدير المركزي للكتاب بالوزارة في 9 ديسمبر 2023 عن اقتراب تأسيس هذا المركز، ولا بُدَّ أن مَركَزًا كهذا سيساهم في أن ينال المترجِمون المكانة التي يستحقون في هذا الوطن، وفي المقابل سيخدمون الترجمة التي بدَورِها ستخدم الوطن، على حد تعبير “جورج صليبا”: لا نهضة فكرية دون ترجمة!
إذَن، علينا أن نُتَرجِم كل شيء لكُل الناس؛ من أجل التثقيف والمثاققة، والتعليم، وفك العزلة. بهذا فقط نخدم الترجمة، ونحرك عجلتها، ولا نبقيها تراوح مكانها على أرض متشققة.
5-+++ سؤال: لماذا انتشرت كلمات جديدة مثل “الكوفيد”، “كورونا”، و”ترند” في اللغة العربية؟
+++ جواب: اللغة كائن حي يتطور مع الزمن، والكلمات المُستَحدَثَة تدخل المعاجم نتيجة للأحداث الكبرى والتغيرات العالمية. وخلال جائحة كورونا مَثَلًا، انتشرت في اللغة العربية كلمات مثل “الكوفيد” و”كورونا”؛ نظرًا لحاجة الناس للتواصل بشأن هذه الظواهر بطريقة سريعة وسَلِسَة، دُون حاجةٍ إلى انتظار اجتهادات المَجامِع اللغوية. وَاللغات دائمًا ما تقترض الكلمات من بعضها البعض، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بمفاهيم جديدة لم يكن لها وجود سابق. ومع ذلك، فقد كانت لي اجتهاداتٌ لتعريب بعض هذه الكلمات الإنكليزية، وإنتاج مقابِلات عربية لها، يستسيغها اللسان والأذن العَرَبِيَّان، وكُلُّها مُدَوَّنَة وموَثَّقَة مُذَكِّرَة تخرجي لسنة 2022، ولا يَسَعُ المَقام لضربٍ مثال هنا.
وإن صَحَّ القَولُ مع “كوفيد وكورونا” لِضِيق الوقت وظرف الحاجة، فإنه لا يَصِحُّ بأي حال من الأحوال مع “ترند مثلا”. وهذا لأن ما تَتوَسَّلُ بِه العَـرَبُ أوَّلًا هو كَلِماتٌ مِن المُـتَـوَفِّـرِ في مُعجَمِهَا، وَلَا تَـلـجَأُ إلى اقتِـراضِ الدَّخِيل أو استِحداثِ البَدِيل إلا في الحالات القُصوَى. وَهَـذا نَـهجُ كُلِّ لُغَةٍ في الـتَّـعـبِـيـرِ عَمَّا يَستَجِدُّ مِن المَفاهِيم؛ فَجورجي زيدان يَقول: «مَعلُومٌ أن اللغة في أول نَشأتها وأبسَط أحوالها مُؤَلَّـفَـةٌ من ألفاظٍ قليلةِ العدد، كافيةٍ لتفاهم المُتَـكَلِّمِين بها بالنسبة لبساطة احتياجاتهم، فإذا ارتقت أحوالُهم واحتاجوا إلى كلمات جديدة يُعَـبِّرُون بها عن مَعانٍ لم تَكُن في ذهنهم من ذِي قبل، رَكَّـبُوا من الكلمات التي لديهم ما يَـسُـدُّ حاجتهم» . وَالأمثلةُ عَلَى هَذا الـنَّهجِ كَثِيرَةٌ، وَمِنهَا أنَّ «سكان المكسيك القدماء لما رَأَوا السفينة لأول مَـرَّة ولم يَكُونُوا يَعرِفُونَهَا قَبلًا، ولَم يَكُن لها في لُغتهم اسم، دَعَـوهَا “أكالَى” أي بَيت مائي».
أمَّا “ترند” -التي اعتمدها “مجمع اللغة العربية” بالقاهرة- فهي الطريق الأقصر لفرض الدخيل ورفض الأصيل، وهذا ما لا يجب أن يَكون؛ حِمايَةً للساننا العربي العتيد المجيد. وَقَد انـتَقَدَ الكاتبُ والإعلامِيّ “عارف حجاوي” في لِقَاءٍ مع قناة “العربي 2″ قَرارَ المَجمَعِ قَـــائِـــلًا: «”تــرنــد” دخيلة وغريبة وتبدأ بِساكِــنَـيـن. واللغة العربية لا تريد كلمة تبدأ بِساكِــنَـيـن، “تــرنــد” ثقيلة». ثُمَّ بَدَأَت اجتهاداتُ الغَيُورِينَ على لُغَةِ الضَّادِ، فَمِنهُم مَن اقتَرَحَ: صَرخَة وَصَيحَة وَتَقلِيعَة وَهَـبَّة. وَمِنهُم مَن اقتَرَحَ: مُتَدَاوَل وَمُــتَصَدِّر وَرَائِج. اقتَرَحَ آخَرون: تَـوَجُّهات وَاتِّجاهَات وَنَزعات وَمُيُولَات وحَديث السَّـاعَة وأُحدُوثَـة أو أُحدُوثَة سَائِرة، وغيرها..
وَهَذا دَلِيـلٌ سَافِر يَدحَضُ الزَّعمَ السَّافِل بِأَنَّ العربيةَ قَاصِرةٌ، إنَّمَا القُصورُ فِينَا وَالتَّقصِيـرُ مِـنَّا. فَأَنعِمْ بِهَا مِن اجتِهادات! وَكَفَانَا الله شَرَّ التَّـفَرنُجِ وَسُوءَ التَّرجَمَات.
6+++ سؤال: هل الترجمة بريد العالم؟
+++ جواب: يُذَكِّرُنِي هذا الوصف بمجموعة فيسبوك الأولى التي عَرَّفَتني بعالَم الترجمة، وهي “التَّرجَمَة لِسانُ العالَم” لأستاذة الترجمة والمترجمة الرسمية “نجاة سعدون” من ولاية سطيف. والكلمة “لِسان” هُنا تَعنِي “لُغَة”. كما يُذَكِّرُنِي بعُنوان ملتقى وطني نَظَّمَهُ المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر، بعنوان “التَّرجَمَة بَريد اللُّغاتِ”.
وَدُونَ أدنَى شك أقولُ: نَعَم، الترجمة بريد العالم؛ فهي التي تَنقُلُ الأفكار والابتكارات والمفاهيم بين الشعوب المختلفة، وفي هذا الصَّدَد، أذكُرُ لكُم عنوان أحَد كُتُبِي، وهو “نُصُوصٌ مُسَافِرَة”، في إشارة إلى أن الترجمة سَفَرٌ ورِحلَة للنصوص من مكان إلى آخَر.
وبفضل الترجمة، صار بإمكان الإنسان أن يتعرف على علوم الأمم الأخرى وآدابِها، مما يُسهِم في التقدم البشري وتوسيع الآفاق الثقافية. والترجمة هي ما يُسَهِّلُ على البشرية التواصل عبر الأزمنة والأمكنة، كما أنها تجعل العالم الفسيح رُقعَةً صغيرة جِدًّا يرتبط كل واحد فيها بآخَر ليس فيها بسهولة وسلاسة وسرعة فائقة. وفي هذا يَقول “جورج ستاينر”، الفيلسوف والمفكر والناقد ابأمريكي: لولا الترجمة لكنا نعيش في مناطق يَعُمُّها الصمت، ويقول “إيتالو كالفينو”، الصحفي والروائي الإيطالي: لولا الترجمة لبقيت مقيدا في حدود بلدي. أمَّا أنا فَأَقُول: «عندما سَقَطَت على رأسي تُفاحةٌ من شجرة اللغات اكتَشَفتُ جاذبية التَّرجَمَة»..!