خبراء المستقبل المغاربي

التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية الجزائرية.. الثابت غير القابل للنقاش في البرامج الانتخابية

الدكتور حسام حمزة ـ أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

التوجهات الكبرى للسياسة الخارجية الجزائرية.. الثابت غير القابل للنقاش في البرامج الانتخابية

الدكتور حسام حمزة ـ أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

في حين يُرى باب التنافس بين المترشحين الثلاثة لرئاسة الجمهورية في الجزائر مشرعا على مصراعيه في محاور برامجهم ذات الصلة بالقطاعات الاقتصادية والاجتماعية، ومختلف المجالات المتعلّقة بالتنمية بأبعادها المتعدّدة، مع ما ينطوي عليه هذا التنافس من تنوّع في المقاربات والأطروحات المعروضة على الناخبين، يُلفي الممحّص لهذه البرامج توافقا بينها في المحاور الكبرى ذات العلاقة بالسياسة الخارجية للدولة، فيما يعتبر تجسيدا ماثلا لنيّة الثبات في العهدة المقبلة –والمستقبل- على المواقف المبدئية والمبادئ الجوهرية المؤسّسة للدبلوماسية الجزائرية وتوجهاتها التي تحذو المترشحين.

فإذا ما ارتكزنا على خطاب كلّ من تبون وحساني وأوشيش في شقّه المتعلّق بالسياسة الجزائرية الخارجية والعلاقات الدولية، سنلاحظ بجلاء رسوخ الإلحاح على تقوية دور الجزائر الإقليمي بما يحفظ أمنها ومصالحها العليا، والإصرار على أن تحرص الجزائر على تأدية الأدوار الكفيلة بصون استقرار جوارها مع التشديد على وجوب الثبات على المواقف والقيم الخالدة التي صنعت اسم الجزائر وهويتها ومنحتها حظوة دبلوماسية على الصعيدين الإقليمي والدولي عبر التاريخ.

بيد أنّ أكثر ما يسترعي الانتباه هو الحضور بلا انقطاع لمسألة دعم القضية الفلسطينية ونصرتها باعتبارها قضية تحرّر وتصفية استعمار عادلة، ناهيك بالأولوية الممنوحة لها في خطاب المترشحين، فلا يكاد محور السياسة الخارجية الجزائرية يستدعى في خطابهم إلا وكانت القضية الفلسطينية ومآسي الشعب الفلسطيني التي يكابدها اليوم عنوانا أوّلا ورئيسا له.

وبقدر ما يوحي هذا التطابق الخطابي في شكله ومضمونه لدى حديث المترشحين عن القضية الفلسطينية بالامتثال إلى ما يمكن أن نطلق عليه إجماعا جزائريا وإرثا تاريخيا ينصّ على عدم التخلي عن هذه القضية مهما كانت الظروف والسياقات، بقدر ما يبعث رسالة حاسمة للعالم أجمع، ولكل من يعنيه أمر المواقف الجزائرية، مفادها أنّ الاستمرار مستقبلا على النهج الحالي في التعاطي مع فلسطين، شعبا وقضية، لن يختلف مهما كانت هوية الرئيس الجزائري القادم ومهما كان انتماؤه السياسي والفكري.

كيفما كان الأمر إذا، وكيفما كانت نتائج رئاسيات السابع من سبتمبر المقبل، فإنّ دعم الجزائر الحثيث متعدّد الأوجه والصيغ للقضية الفلسطينية؛ سياسيا، دبلوماسيا، إعلاميا وماليا، وعلى المستويات الإقليمية والقارية والعالمية، ومن على كل المنابر الدولية متعدّدة الأطراف، ماض لا محالة بلا توقّف أو تراجع، وسيستمر معه بالموازاة وبلا ريب عداء الجزائر للكيان والاحتلال، وسيبقى أيضا رفضها للتطبيع ثابتا لا يتزحزح.

نحن أمام وضوح في الخطاب متعمّد من المترشحين وبلا تورية ينبئنا من الآن باصطفافات الجزائر وانحيازها إلى صفّ الشعوب المضطهدة حين يتعلّق الأمر بقضايا إنهاء الاستعمار وتصفيته وبالأخصّ حين يكون الشعب موضع التضامن شعبا شقيقا.

إنّ هذا ما يحيلنا تلقائيا إلى قضية الصحراء الغربية باعتبارها آخر قضية تصفية استعمار في القارة الأفريقية توحي خطابات المترشحين الثلاث باتفاقهم على طابعها العادل والشرعي الذي يستدعي تفانيا جزائريا بلا تردّد أو تقاعس في دعم الشعب الصحراوي إلى أن ينال حقّه المشروع غير القابل للتنازل أو التقادم في تقرير مصيره ومصير أرضه عن طريق التعبير الحرّ عن إرادته.

والحال هذه، فإنّ وحدة خطاب المترشحين حول مسألة الصحراء الغربية، مثلما هو الأمر بالنسبة للقضية الفلسطينية، يضمر رسائل مسبقة لكلّ من يجري حسابات ويبني توقـّعات وسيناريوهات حول احتمالية انزياح موقف الجزائر حيال الصحراء الغربية إلى غير حاله الآن مفادها أنّ هذا الموقف يندرج في خانة الثوابت المبدئية في دبلوماسية الدولة الجزائرية والذي لا يمكن أن تطاله المناكفات السياسية أو يخضع لملساومات مهما كانت طبيعتها. ولا شكّ أنّ التأكيد على هذا يعطي صورة واضحة عن أنّ الجزائر لن تستنكف في المستقبل عن الاستمرار في نهج الإسناد للصحراويين غير مدّخرة أي أداة من أدواته الموظفة حاليا.

من المؤكّد ونحن نستعرض بعضا من معالم تطابق رؤى المترشحين لكرسي الرئاسة حول الملفّين الأبرزين والثابتين في السياسة الخارجية الجزائرية واتفاقهم على ضرورة مواصلة دعمهما وإسنادهما أن نردّها –قبل كلّ شيء- إلى قناعاتهم الشخصية الراسخة بعدالة هذه القضايا وشرعيتها على نحو يجعلهم مستعدين لتكريس موارد الدولة للدفاع عنها، بيد أنّ هذا الدافع ليس العامل الوحيد المفسّر لسلوكم، ذلك أنّ دعم قضايا التحرّر والقضايا العادلة، لاسيما القضيتان الفلسطينية والصحراوية، ونبذ الاستعمار والنضال ضده بشتى الوسائل المشروعة، هو وليد قيمة التحرّر المركزية في هوية الدولة الجزائرية وشعبها والمستمدّة من تجربة الثورة التي خاضها وخطّ بها ملحمة خالدة من ملاحم تاريخه وتاريخ البشرية.

من هذا المنطلق، فإنّ توافق مضامين برامج المرشحين للانتخابات الرئاسية في الجزائر موعز أيضا إلى الحرص على عدم الانحراف عن الخطّ القيمي السياسي الموجّه لسياسات الأمّة ومواقفها، وليس سوى إعادة توكيد على المثل والمعايير النوفمبرية التي خاض الشعب الجزائري ثورته على أساسها واحتفظ بها كبوصلة ثابتة لا تحيد للتوجّهات الكبرى للدبلوماسية الجزائرية بعد استرجاع السيادة الوطنية عام 1962.

انطلاقا من وعيهم هذا، يقدم المترشحون لرئاسيات التاسع من سبتمبر تصوّرا عن سياساتهم المرتقبة في التعامل مع الشعبين الفلسطيني والصحراوي الشقيقين يمتثل في مضمونه ونهجه إلى مصفوفة القيم التي شكلت جوهر نضال الشعب الجزائري منذ الثورة التحريرية، والمقاومات الشعبية للاحتلال الفرنسي قبلها، وهي القيم التي استحالت قطعا مفصلية في هوية الدولة الجزائرية التي تبث صورة للعالم على أنها دولة بذلت كلّ السبل في سبيل التحرّر والاستقلال، ترفض مختلف أشكال الاستعمار والهيمنة، ولا يمكنها إلا أن تكون في صفّ الذين يقاسمونها الهوية والنضال في سبيل الحرية والعدالة لكل الشعوب.

فبامتثالهم إلى قيم هذه الهوية، وعبر حرصهم على عدم انحراف خطابهم عنها أو وضعها موضع مساءلة، يقدم المترشحون الثلاث صورة مشرقة عن وفائهم لهذه القيم الموروثة عن التاريخ الكفاحي للشعب الجزائري واستعدادهم من الآن للذود عنه حتى وإن اختلفت مشاربهم الفكرية.

والحقّ أنّ هذا التوجّه الواعي من المترشحين يحقّق مكسبا مهمّا آخر: إنّه يبقي هذه المسائل بعيدة عن كلّ جدل شعبي محتمل قد تنبثق عنه حالات استقطاب حاد أو مناكفات سياسية تنعكس سلبيا على الاستقرار السياسي والأمني للدولة، فهو من زاوية النظر هذه يعبر عن عقلانية وحكمة سياسيتين يتطلبهما منصب رئيس الجمهورية يحرص المرشحون الثلاث على إبدائهما. ولا شكّ أن تنزيه القضيتين الفلسطينية والصحراوية من الجدل الانتخابي يغلق الباب أيضا في وجه كل الذين يراهنون على اختراق الموقف الجزائري الموحد إزاءهما لاسيما أولئك الذين ينشطون في الخارج أو المطبعون الذين انخرطوا بلا شروط ولا حدود في مشروع التطبيع مع الكيان وباتوا بيادق في يده ينفذون مشروع تقسيم العالم العربي نيابة عنه.

هكذا إذا يتضح أن حسابات أمنية واستراتيجية تتحكم أيضا في تقاطعات المواقف المترشحين الثلاث وبرامجهم في شقها المتعلق بالسياسة الخارجية للدولة، فعلاوة على تقاطعها مع أمن الجزائر القومي ومصالحها الحيوية فإن إثارتها قد تعطي الفرصة للمتربصين والمناوئين الذين يزعجهم ثبات الجزائر على مبادئها من أجل إيجاد مداخل للتأثير على مواقفها تؤدي إلى إضعافها مستقبلا.

ولكن هيهات..

 

زر الذهاب إلى الأعلى