خبراء المستقبل المغاربي

حرب أخرى شمال مالي: هل تتكرّر إخفاقات الماضي؟‎

بقلم الدكتور حسام حمزة أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

مرةّ أخرى، يمضي شمال مالي قدما إلى التدحرج نحو المجهول بسبب إصرار باماكو على تكرار اعتماد مقاربة لحلّ نزاعها مع الأزواد ثبت تاريخيا أنّها لا تفضي إلا إلى تأجيج العداوات وتعميق الانقسامات. وفي الواقع، فإنّ رؤية المجلس الانقلابي الحاكم في باماكو الآن، هي حاصل سائر رؤى الحكومات المالية السابقة التي طالما أصرّت على نهج عسكري قوامه السلاح والعنف العسكري لحلّ مأزق يلوح في ظاهره التمرّد المسلّح لسكان أزواد لكنّ باطنه هو معضلة سياسية سوسيو-ثقافية جذورها ضاربة في أعماق تاريخ المنطقة. فلا جدال في أن تكون هذه الرؤية والنهج المنبثق عنها مجرّد نسخة مقلّدة من تجارب خلت وأن تؤول في منتهاها إلى مزيد من الانسداد السياسي والاستعصاء الأمني كما آلت إليهما سابقاتها.

ناهيك بهذا، يُستغرب في الاستراتيجية التي تنفّذها حكومة باماكو الانقلابية سعيا إلى الفكاك من معضلاتها المزمنة في الشمال ارتدادها إلى أنماط سلوك نافحت ضدّها في خطابها وبرّرت انقلابها وإطالة عمر حكمها غير الدستوري بسعيها إلى تخليص مالي وشعبها منها. إنّ المقصود هنا هو ما رأيناه منذ واقعة كيدال في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 من عودة تدريجية إلى الاتكاء على الأجنبي الحاضر عسكريا على أراضي مالي لأجل تحقيق أهداف أدرجت وطنيا ضمن استراتيجية استكمال بسط سيادة باماكو على كامل ترابها بما ينطوي عليه هذا الاتكاء من مخاطر استفزاز النعرات الإثنية والهويتية المتطرّفة وإحياء مطالب الانفصال عن حكم لا يتوانى عن اللجوء إلى مرتزقة مسلحين أجانب لمحاربة مواطنيه بدعوى مكافحة الإرهاب.

إنّ المعارك التي دارت في بلدة تينزاواتين (أقصى شمال مالي) بين 25 و27 تموز/يوليو وما انبثق عنها من تداعيات تبرّر استدعاء ماضي أقاليم مالي الشمالية المفعم بمعاني التأزّم والنزوع إلى قراءة مستقبلها قراءة متشائمة. لقد أسفرت تلك المعارك عن مقتل 47 من جنود الجيش المالي و84 عنصرا مسلّحا روسيا ينتمون إلى ما صار يسمّى “الفيلق الأفريقي” (فاغنر سابقا)، ناهيك باستيلاء المسلحين الأزواديين على عربات مدرعة وشاحنات وناقلات استنادا إلى الأرقام التي أذاعها “الإطار الاستراتيجي للدفاع عن شعب الأزواد” (الإطار الإستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية سابقا) في بيان أصدره يوم 28 جويلية/تموز. وإن لم يؤكّد “الفيلق الأفريقي” الأرقام السابقة فإنّه لم ينفها أيضا مكتفيا بالحديث عن “تكبّد جنوده وجنود الجيش المالي خسائر خلال قتال شرس مع مسلحي الطوارق قرب حدود مالي مع الجزائر”.

لا يوعز الانطباع المتشائم حيال مستقبل أقاليم شمالي مالي المنبثق عن تلك المعارك إلى عدد الضحايا الذي أسفرت عنه فحسب، بل لأنّ جملةً من المتغيّرات طرأت على الإقليم بسببها ليس أقلـّها العودة البادية لخطاب العداء وسيناريوهات الاقتتال بين جنوب مالي وشمالها ضمن مسار قد لا تكون نهايته منظورة.

أوّل تلك المتغيّرات هو تكشّف التناقض في الخطاب الرسمي المالي إزاء تواجد مرتزقة فاغنر والدور الذي يضطلعون به على الأراضي المالية. إنّ القول مستقبلا بأنّ “الجنود الروس الموجودون على أراضي مالي ليسوا تابعين لفاغنر (الفيلق الأفريقي حاليا) وأنهم مدرِبون ومكوّنون فقط يساعدون القوّات المالية المحلية في استخدام المعدّات المشتراة من روسيا”، كما يحلو لديوب ومايغا الترويج له، لم يعد مجديا ولا صحيحا لأنّ الوقائع كذّبته، ذلك أنّ سقوط عدد من هؤلاء بين قتيل وأسير يقدّم صورة عن حقيقة انخراطهم الواسع في عمليات القتال خلاف ما تروّج له باماكو. وتكمن خطورة هذا السلوك في ردّ الفعل الذي ولّده (وسيولّده) لدى الأزواد جرّاء الدوافع المتعلقة بغريزة الدفاع عن النفس والتي كانت دائما سببا يدفعهم نحو سلوكات “المساعدة الذاتية” من أجل حماية أنفسهم، سلوكات من شأنها أن تقودهم نحو تحالفات مع فواعل أخرى سعيا إلى موازنة قوّة باماكو وحليفها الأجنبي.

ذلكم أخطر احتمال يسير الإقليم نحو الانجرار إليه إذا صدقت رواية باماكو الرسمية التي تتهم الأزواديين بموجبها بالتحالف مع “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” الإرهابية والعمل بالتنسيق مع المخابرات الأوكرانية. فمن الواضح بعد هذا أنّ العودة إلى الاتكاء على الأجنبي (الروسي بعد الفرنسي) في استراتيجية باماكو لاستعادة الشمال كان سببا في تقهقر الإقليم إلى “سباق تحالفات” لا تحتكم إلى شرعية الحليف في بنائها بل إلى مستوى عدائه للغريم وشدة رغبته في تدميره.

والواقع أن الارتكان إلى طرف أجنبي لتحقيق انتصار على طرف داخلي هو حاصل تفكير يستبدّ بقادة المجلس العسكري الحاكم في مالي يريد تحقيق السيطرة بالقوّة والحديد ويشبه التفكير الذي أفضى إلى الاستنجاد بالفرنسي في الماضي مع حفظ الفوارق، ويشبه أيضا التفكير الذي أسّس للفشل في التعامل مع تمرّدات الطوارق منذ تمرّدهم الأول في 1964 الذي قمعه الجيش المالي بقسوة وهمجية شديدتين.

هذا ما يحيلنا إلى المتغيّر الثاني في المشهد المالي الذي بدأت ملامحه ترتسم منذ بدأ الجيش المالي حملته على الأقاليم الشمالية في الربع الأخير من سنة 2023 وبات في حكم المنجز بعد أن قرّرت سلطات باماكو إلغاء العمل ببنود اتفاق الجزائر في جانفي/كانون الثاني 2024 معلنة انسحابها منه. منذ تلك اللحظة، بات جليّا اعتداد عسكر باماكو بالقوّة التي بدأت تتراكم لديهم منذ تحالفهم مع فاغنر ووصول مشترياتهم من السلاح التي ساعدتهم في تطوير أسطولهم الجوي بطائرات مقاتلة ومسيّرات، فما كان منهم إلا أن ارتدّوا إلى منطق الإكراه والإخضاع بالقوّة الذي عوّض منطق الحلّ السياسي التنموي الذي أسّس له اتفاق السلم والمصالحة المعروف بـ”اتفاق الجزائر”.

لقد أرادت باماكو أن تعوّض الأخير بعد أن انسحبت منه باتفاق آخر يتوّج جلسات حوار وطني شامل، بيد أنّ كل المعارضة المالية تقريبا قاطعت هذه الجلسات فكان هذا الحوار مختزلا ومُقصِياً بدل أن يكون جامعا، ولم تكن نيته تذليل العقبات في وجه مزيد من الاندماج بين شمال ومالي وجنوبها بقدر ما كان ينشد تزكية شعبية للانقلابيين تحلّ محلّ الانتخابات وتحفظ لهم البقاء في السلطة إلى عام 2027 على أن يكون رئيس المجلس العسكري الحاكم حاليا، أسيمي غويتا، مرشحا للرئاسة بعد انقضاء فترة الحكم الانتقالي.

هكذا إذا عوّض العسكر مسارا استهلك عمرا طويلا وجهدا حثيثا لبناء توافقات بين الغرماء أسفر في منتهاه إلى توقيع اتفاق السلم والمصالحة المالي لعام 2015 بمسار متسرّع، مرتبك وغير جامع، فكانت محصّلته العودة التدريجية إلى ما قبل 2015 حين اتخذت البنادق أداةً لفضّ النزاع بدل الحوار والدبلوماسية. وعوض أن يقود الحوار الوطني إلى مشهد آمن ومستقرّ أحسن من الوضع الذي كان قبله نجده يعود بالبلاد إلى زمن الدم والرصاص.

المؤسف أنّ حكام مالي الحاليين يكرّرون المجرّب البيّن طريق إخفاقه. فلو كان القمع يجدي نفعا لكان أفلح في إنهاء النزاع يوم مارسه الجيش المالي ضد الطوارق عام 1963، ولما رأينا تمرّدات الأزواد طيلة ستة أعوام بين 1990 و1996، ولا تمرّدات 2006 و2007 و2009 و2012، ولا كانت هناك حاجة إلى الاستعانة بقوات أجنبية من أجل إيقاف الحرب الداخلية في كل مرة. ومع ذلك، ضرب عرض الحائط بكلّ تلك التجارب ويجري في المقابل تكرار المكرّر وتجريب المجرّب.

في هذا الخضم، وفيما يبدو أنّه محاولة لصرف الأنظار عن الأزمة الآخذة في التأجّج منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، يجري التسويق في كلّ مرّة لانتصارات عسكرية سابقة لأوانها في كيدال وضواحيها على أنها نجاح للاستراتيجية التي يتبناها المجلس العسكري في دحر الإرهابيين واستعادة أقاليم الشمال. بيد أنّ التاريخ يقرئنا أن ذلك القانون الناصّ على أنّ “كل فعل يولّد ردّ فعل مساو له في القوّة ومعاكس له في الاتجاه” طالما كان صحيحا حين يتعلق الأمر بإقليم أزواد، فكلما جنحت سلطات باماكو إلى القمع والحرب قابلها الأزواد بالمقاومة والتمرّد وكانت المحصلة معضلة أمنية داخلية كلما طالت استعسر الخروج منها، وتلكم هي ــ للأسف  ــ الوجهة التي نبأتنا واقعة تينزاواتين الأخيرة أن مالي تسير نحوها قُدُماً بعد أن عاد الأزواديون بقوّة إلى السلاح ولغة الرصاص والتمرّد لفضّ خلافاتهم مع باماكو بما فيهم أولئك الذي كانوا من المنخرطين في اتفاق السلم والمصالحة.

هكذا هو المشهد المالي في مجمله، حلف يستثير حلفا في الجهة المقابلة، وسلاح يوقظ سلاحا… وهلم ترديا. ولو أن قليلا من الحكمة حلّ محلّ الغرور بالقوة الذي استبد بتفكير العسكر الحاكمين في باماكو لاختلف المشهد ولكان ممكنا حشد كلّ الجهود المالية الوطنية بعيدا عن المناكفات الضيّقة لتخليص مالي من كلّ تواجد للإرهاب والمرتزقة الذين يلعبون تلك اللعبة القديمة الموروثة عن الاستعمار “فرق لكي تسود”.

 

زر الذهاب إلى الأعلى